الأحد، 26 مارس 2017

الثلاثاء، 21 مارس 2017

مكونات الهوية الامة الليبية في الاطار التاريخي ...اعداد / د. زكية بالناصر القعود





مقدمة
الهوية الوطنية ليست شيئا ثابتا ً لا يتبدل ولا يتطور ولا يتحور مع مرور الوقت ومع تبدل وتطور وتغيّر معتقدات وتوجهات السكان بل هي "كائن حي" يتأثر  أولا ً بمعتقدات الناس وشعورهم الوجداني بالإنتماء ثم باللغة والدين والثقافة السائدة بشكل عام كما تتأثر بالإتجاهات السياسية والإيديولوجية المتنافسة والمختلفة وكذلك  بعملية إنصهار العوامل الديموغرافية والثقافية في إقليم جغرافي ما من خلال وسائل (المصاهرة) و(المجاورة) بين شرائح وفئات السكان ومن خلال آليات (الهجرة والإستيطان) و(الحروب والإستعمار)!... ونحن هنا لا نتحدث عن (الليبيين القدماء) أيام الرومان والإغريق عندما كان إسم (الليبيين) بهذا الوصف يشمل كل سكان شمال إفريقيا البيضاء ربما بإستثناء مصر الفرعونية بل نتحدث عن (الليبيين اليوم) (الليبيين في العصر الحديث لا في العصر القديم) فحتى إسم (الإثيوبيين) مثلا ً كان  في العصور القديمة يشمل سكان أفريقيا السوداء كلهم ففي ذلك الزمن تم تقسيم الأفارقة على قسمين: إما "ليبي" فهو من سكان شمال إفريقيا البيضاء (*) أو "أثيوبي" فهو من سكان أفريقيا السوداء.. أما اليوم فالهوية الليبية محصورة في الشعب الليبي الحالي وهو شعب مسلم يغلب عليه الطابع العربي في الإنتماء واللغة واللهجة الليبية الشعبية السائدة مع وجود بعض السكان الليبيين غير العرب كالليبيين الأمازيغ والتبو.... فالليبيون اليوم هم غير الليبيين بالأمس.. وسكان أمريكا اليوم غير سكان أمريكا منذ ألف عام وكذلك الحال في عدة دول وبلدان فالهوية الوطنية تتغير وتتطور ويُعاد تشكيلها من حيث (النسل والنسب) -  أي من حيث "الهارد وير" Hardware - وكذلك من حيث (الثقافة والمعتقدات) وكذلك الحال بالنسبة للهوية الأثيوبية اليوم مثلا ً فهي تعني سكان دولة أثيوبيا الحالية فقط ولا تشمل سكان أفريقيا السوداء كلهم كما كان عليه الحال في العهد الروماني والإغريقي القديم (1)!!......
 فالشاهد أن (الهوية) هي كائن حي متطور ومتحور عبر القرون.. وفي عصرنا هذا أصبحت (الوطنية) والإنتماء للوطن والدولة (الوطنية) جزء أساسي في هوية الناس والسكان!.(2).. والليبيون اليوم هم أمة وطنية واحدة يغلب الطابع الإسلامي والعربي على شعور وثقافة  الغالبية العظمى من أفرادها إلا أن المُكوّن الأمازيغي وكذلك الزنجي الإفريقي والصحراوي من حيث "العنصر" وكذلك من حيث "التأثير الثقافي" يظل حاضرا ً في (الشخصية الوطنية الليبية) المعاصرة ويظل – بالتالي - جزءا ً لا يتجزأ  من هوية هذه الأمة الوطنية أي (الأمة الليبية) التي تم الإعلان عن ميلادها من ضمن الأمم المتحدة في العالم من خلال الإعلان عن ميلاد دولة ليبيا.. دولة الأمة الليبية الحديثة في يوم الإستقلال المجيد في 24 ديسمبر 1951.. هذه الدولة والهوية التي إختطفها الطاغية المباد لصالح مشروعات وهمية وكارثية غير مجدية لأربعة عقود من عمر (الأمة الليبية) ويحاول الليبيون المعاصرون اليوم من خلال ثورة 17 فبراير 2011 إستعادتها وتطويرها والمضي بها نحو الرقي والتقدم . والتي تجسدت عبر التاريخ في عددة مكونات

تعددت مكونات الهوية الأمة الليبية نذكر منها

أولا: المكون الدين الإسلامي وللغة.

لا يمكن أن نفهم شخصية ليبيا الحقيقية بدون أن نتعرف على مكون أساسى يجمع الجميع ألا وهو مكون "الإسلام". فاللغه العربيه والإسلام وحدت وسيلة الإتصال بين جميع مكونات المجتمع الليبى،
فالاسلام منذ استقرارة في ليبيا ، و رسوخة منذ بداية القرن الثاني للهجري . ولم يصب بأي نكسة منذ ذلك الوقت . بفضل ما قام به بعض الخلفاء والولاة من جهد لنشر الدين واللغة بإرسال العلماء وفقهاء لتعليم السكان في ليبيا والمغرب العربي الدين الإسلامي واللغة العربية ، مثل ما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز(15))و كذلك الهجرات العربية وقيام دويلات أسلامية وانتشار المساجد (3)
فالاسلام في ليبيا مظلة جمعت جميع مكونات المجتمع الليبي ( الامازيغ والطوارق والتبو ) واصبح الاسلام جزء من هويتهم وثقافتهم وعاداتهم  ، بالاضافة الي ان لغة القران الكريم كتابهم المقدس اللغة العربية لغة مشتركة بين جميع المكونات الامة اليبية  ،
فالاسلام هو الهوية  الكبيرة  التي لم تطمس الهويات الأخرى المحلية بل حافظت عليها.واضافة اليها .

ثانيا: المكون الثقافي

من اهم معالم المكون الثقافي في ليبيا ( الروباط  والزوايا ) وله تاثر في تكوين  بالاضافة الي الوافد الادبية ( الشعر والنثر والقصة ) والعلمية في العلوم العقلية والنقلية  ، الزوايا والرباطات  ،التي كانت نشأتهما بسيطة في مكان منعزل، بهدف العبادة او تلقي العلم او الدفاع عن تغور البلاد من الاعداء ،، ثم تحولت إلى مكون أساسي في التركيبة الاجتماعية، تساهم بقسط وافر في الجانب الديني والتعليمي والاجتماعي. ”. ويصف ابن مرزوق الزاوية في المغرب بقوله: “والظاهر أن الزوايا عندنا بالمغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاجين من القاصدين”.(4)
إجمالا، فالزاوية مكان منعزل كان يستخدم، أولا مقرا لسكنى الشيخ الذي يلقن لأتباعه، بعيدا عن الضوضاء مبادئ طريقته، ولما كان هؤلاء الأتباع يأتون من بعيد، ويصعب عليهم الرجوع يوميا إلى أماكن استقرارهم، فإنهم يستقرون في الزاوية أو في الأماكن التي يبنونها حول الزاوية، ولا يقتصر الأمر على هؤلاء الأتباع، وإنما كذلك الأفراد أو الجماعات التي تتعهد بها الزاوية..
يبدو من خلال هذه التعاريف أن الزاوية ارتبطت بمجموعة من الأدوار الاجتماعية المحددة (التعبدي، الإيوائي، الإطعامي)، والتي جعلت منها عنصرا فاعلا في التشكيلة الاجتماعية والسياسية وعلاقتها بالمجتمع والسلطة، ومن الادوار التي يقوم بها الزوايا ،الدور التعليمي و الاجتماعي .
. فقد كانت بالإضافة إلى وظيفتها الدينية معاهد لتعليم الشبان و تنوير العامة ، و قد اشتهرت بعض الزوايا و الخلوات الريفية حتى أصبحت محجة للزوار و الطلبة ، و من ذلك زاوية الجغبوب التي تحولت معهد تعاليم العلوم الدينية .(5)
و ظاهرة التعليم في الزوايا ليست خاصة بالريف ، ففي المدن أيضا كانت بعض الزوايا تقوم بدور ايجابي في نشر التعليم بجميع مستوياته . فالزاوية الاسمرية قد تحولت تدريجيا إلى مدرسة عليا أو معهد ، و هذه الزاوية كان الطلبة يفدوا اليها من جميع بلاد المغرب اوافريقيا بالاضافة الي ابناء ليبيا من جميع الاقاليم ، ومن أشهر الذين درسوا بها في القرن العاشر كريم الدين البرموني ،وعمر بن حجا ، وأحمد بحر السماح وزاوية الحطاب نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الحطاب الكبير (ت 945هـ )(6)
و كذلك زاوية شيخ االزروق في مدينة مصراتة ، و من الزوايا التي لعبت دورا أساسيا في نشر التعليم  في الاقاليم الشرقية والصحراء الليبية الزوايا السنوسية . التي اسسها الامام محمد بن علي السنوسي . لقد إختار هذا الشيخ الجليل ليبيا لأنه وجد فى قبائلها وشعبها تعطشاً كبيراً لدعوته ورسالته النبيله، ومن عبقرية هذا الرجل أنه إستوعب البيئة الليبيه بكل إشكاليتها
ولقد كان المقيمون في هذه الزوايا الارابطة يقمون الي جانب التعلم والتعليم نسخ لكتب وببعض الأعمال الصناعية والزراعية التي يتعيشون منها وكان من الصعب التميز بين من هم من اصول عربية أو بربرية أو غيرهم نتيجة التداخل والتمازج الذي مر بة  مرابطين في تلك الزوايا او الاربطة 
للمرابطين كما يعرف في طرابلس وفزان بصمات علي الارض الليبية فقبور الصالحين منهم أصبحت أضرحة أولياء وحولها تكوت تكثلات سكانية أدت إلي استيطانهم  بصفة دائمة مثل مدينة بنغازي نسبة الي سيدي غازي(7)

ثالثا:المكون التاريخي لمدن الليبية

 مما يجب معرفة  واستيعاب  فهم مكونات المدن الليبية
، من خلال معرفة البعد التاريخي الاجتماعي والجذور التاريخية لمدن الليبية .
فالجانب التاريخي  والبعد الاجتماعي يعطي فكرة عن مساهمة المدنية وارتباطاتها التاريخية ابتداء من التاريخ القديم وحتى نيل الاستقلال.
كما أن المعالم التاريخية لي مدينة تعطي طابعا أصيلا و ذاكرة غنية ، عن المدن الحديثة التي تطورت من ظروف تاريخية مختلفة ، فطالما أُنشئت ونظمت  هذا المعالم التاريخية، على أسس من التناغم البيئي والاجتماعي،
"فالمدينة التاريخية" هي في الواقع - منذ نشأتها- نتائج لظروف بيئة و اجتماعي وسياسي واقتصادي لسكانها، وهذا ما خلصت إليه جل الدراسات التي تعرضت إلى هذا المجال العمراني سواء من الناحية الهندسية أو الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
أن تحولات البنية الاجتماعية سواء للمجموعات الاجتماعية في المدن  في الماضي هي إنتاج التحولات الاجتماعية في الحاضر ،وهذه التحول الاجتماعي متعلق بدوره بالتطور العمراني الذي تشهده المدينة عبر التاريخ ، كما أن المجموعات الاجتماعية ، والعلاقات الاجتماعية وروابطها السلالية تشكل  النسيج الاجتماعي لسكان المدينة، بحيث تتأقلم مع متطلبات الحياة المتطورة، وتستجيب للضغوط الديموغرافية المتزايدة، والاقتصادية والثقافية المستجدة ، تجسد لنسج اجتماعي لتك المدن الذي مع الوقت يشكل الهوية .(8)
نمط الاقتصاد الزراعي الرعوي السابق، والنظام الحالي للمدن المعتمد بعضها على بعض وظيفياً. ففي النظام القديم كان الرعاة الزراعيون يتنقلون بحرية على الأرض سعياّ وراء الكلأ والماء، ولم يكونوا يعترفون بأية حدود تفصل بين أجزاء وطنهم. وفي النظام الحالي ولدت المدن والقرى من مختلف الأحجام من خلال نظام تراتبي متأصِّل للأماكن المركزية، التي ثبت أنها تلعب دوراً أساسياً في مسألة الهوية وقامت كل منها بدور البُوتقة التي ينصهر فيها السكان القادمون من كل مكان في ليبيا.(9)
ودون الحاجة إلى الخوض في تفاصيل التطور التاريخي للمدن الأولى، يكفي القول إن اللبنات الأولى للإطار الحضري الحالي تمتد جذورها عميقاً في تاريخ ليبيا. ومن الأمثلة على تجمعات حضرية بنيت فوق مواضع مدن تعود للتاريخ القديم والوسيط أو بجوارها نذكر: طرابلس، بنغازي، شحات، صبراته، زوارة، مصراته، زليتن، الخمس، درنة، طبرق، المرج، سوسة، طلميثة، توكرة، دريانة، وغيرها من المدن المنتشرة في جبل نفوسة ومنخفضات الصحراء الجنوبية مثل زويلة، جرمة، مرزق، غدامس وغات. بعض المدن الأخرى، مثل سبها والزاوية والبيضاء فقد نمت كمراكز إقليمية مهمة في العصور الحديثة، بل إن البيضاء قد أصبحت في فترة ليست بعيدة عاصمة للبلاد، في حين أن بعض المراكز الحضرية الأخرى قد ظهرت كمنتج طبيعي لأنشطة استثمار موارد النفط، مثل موانئ تصدير النفط: مرسى البريقة وراس لانوف والسدرة.(10)
إن المتمعن في المشهد الحضري في ليبيا، ولو لم يكن ذا معرفة واسعة بجغرافية ليبيا، سوف يلاحظ أن ذلك الانتشار الواسع للمواقع التي ذكرتها آنفاً يشير تقريباً إلى كل المدن والقرى المهمة، الكبيرة والصغيرة، التي تتكون منها ليبيا الحالية. وثمة استمرارية ملفتة للنظر توجد بين مكونات الأنظمة الحضرية القديمة في المدن الخمس في جهة الشرق، والمدن الثلاث في الغرب، ونظيراتها الحديثة التي نشأت في المواقع ذاتها. بالطبع واجهت المراكز الحضرية القديمة جملة من الظروف غير الملائمة من الجمود والانهيار، ومع ذلك فإن الإطار العام للمشهد الحضري الذي ورثته ليبيا من تاريخها الماضي ظل في مجمله ثابتاً، وحافظ على نظامه المكاني الأصلي. ولعل من أبرز علامات هذه الاستمرارية الإبقاء على الأسماء الأصلية لكثير من المدن والأقاليم معرّبة مٌنذ الفتح الإسلامي. وإذا ما نظر إلى هذه المراكز وظهيراتها باعتبارها نظاما مكانياً، فإنها تمثل مكونات تراتبية حضرية مرتبطة ببعضها البعض وظيفياً، كما لعلها كانت كذلك في الماضي البعيد.
من نماذج علي ذلك مدينة بنغازي
كانت مدينة بنغازي قبل سنة من الفتح الإسلامي عام 642 ميلادي الموافق 21 هجري متكونة من أغلبية من البربر وبعض من ذوي أصول إغريقية ورومانية، وبعد ذلك قامت مجموعة من البربر المعتنقين للديانة اليهودية بتدمير مدن شمال أفريقيا ومن بينها برنيك (بنغازي) بدعم من بيزنطة التي خسرت الحرب ضد الفاتحين المسلمين[بحاجة لمصدر] وبعد هذا التاريخ أصبحت مدينة برنيق اطلال لمدينة مهجورة ولم تتم عودتها الا في القرن الخامس عشر للميلاد حيث استخدمها الليبيين من مصراتة كمحطة ونقطة تلاقي مع شرق ليبيا، وفي عام 1450 كان من بين التجار التاجر غازي[بحاجة لمصدر]. المناطق وأسماء الشوارع في بنغازي تعرف بأسماء العائلات التي تقطنها أو أسماء الأولياء الذين دفنوا فيها، مثل سيدي خريبيش، سيدي حسين، سيدي سالم، سيدي الشابي وغيرهم  .
. وعقب وقوع المدينة تحت السيطرة العثمانية تدفق السكان المجاورون من مسلمين ويهود وسكنوا المدينة, وكان الثقل السكاني يميل لقبيلتي الكراغلة (ذات الأصول التركية) والجوازي (ذات الأصول العربي) حتى عام 1817 هجر عدد كبير من قبيلة الجوازي   على يد الباشا يوسف القرمانللي ومن هنا بدأت التركيبة الديموغرافية للمدينة تتغير . (11)
وأضحى التآلف بين شرائح وأعراق المجتمع البنغازي واضحاً الذي يعود بالأساس إلى أصول عربية وبربرية وتركية ويهودية ويونانية. وبعد اكتشاف النفط عام 1964 وحدوث الطفرة الاقتصادية زحف الكثيرون من سكان الدواخل إلى المدينة في محاولة لكسب أرزاقهم وانتشرت العشوائيات وبنايات الصفيح ثم جاء عام 1967 الذي شهد طرد شريحة مهمة من سكان المدينة وهم اليهود الذين كانوا يشكلون أكثر من 90 بالمائة من التجار. وشهد عقد السبعينيات تغييراً آخر في التركيبة السكانية عندما أزيلت العشوائيات وبنيت المساكن الشعبية التي شجعت المزيد من الوافدين إلى الاستقرار بشكل نهائي في المدينة.(12)

رابعا :المكون التاريخي

لما كان التاريخ مرآة الأمم ، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها ، وتستلهم من خلاله مستقبلها، كان من الأهمية بمكان الاهتمام به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم . فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها، إذ به قوام الأمم ، تحيى بوجوده وتموت بانعدامه . (13)
أنّ للتاريخ أهمية قصوى في حياة الأمم والشعوب, لذلك نجدها أولته رعايتها البالغة، وسعت إلى جمعه في شكل مدونات عن سير الأجداد، أو عبر المحافظة على الموروثات، أو من خلال القصص الشعبي، ليؤدي دوراً مهماً في تعبئة وجدان الناشئة، حتى ينشب الشبل ناسجا على منوال أجداده,محافظاً على قيم شعبه الموروثة كابراً عن كابر
إن التاريخ الشفهي والمكتوب لنضال الشعب الليبي ينبئنا بأن الحفاظ على الوحدة الوطنية كان أمراً جوهرياً من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية. وتعد الملحمة الشعرية الشهيرة: "ما بي مرض غير حبس العقيلة" نموذجاً كلاسيكياً لوصف المآسي والفظائع التي قاساها الليبيون إبان نظالهم البطولي ضد الاحتلال الإيطالي، ومع ذلك فهي تعبر عن معاني اللهفة للديار والهُوية المسلوبة والأمل في استعادتهما. وكي نفهم ملامح التغيير التي توحي بها الثورة الحالية، على صعيد تبلور الهوية وتطورها، علينا أن نعود إلى الاستمرارية التاريخية من خلال مرحلة ما قبل الاستقلال والمرحلة الدستورية. ويفترض أن معنى من معاني الاستمرارية التاريخية مع هاتين المرحلتين الحاسمتين يعطينا ما نحسبه معنى للهوية الوطنية.
في الحقيقة لقد وجد الليبيون الفرصة للتعبير عن فهمهم المتميز لهذه الوحدة في ثلاث مراحل حاسمة خلال مائة السنة الأخيرة من تاريخهم، بدءاً من 1911 حتى 2011. وقد تجسد إدراكهم لمصيرهم المشترك بشكل واضح خلال ثلاثة عقود من النضال الموحد، سياسياً وعسكرياً، لتخليص بلادهم من حكم المحتل. لقد جاء المقاتلون من كل مكان: من المناطق الريفية والحضرية على طول ساحل المتوسط، وكذلك من قبائل البادية وسكان الواحات في مناطق الداخل. فقد مثلت هذه القبائل مصادر حيوية لتزويد قضية التحرير بالرجال المقاتلين.
ثم مثل إعلان الاستقلال وإنشاء الملكية الدستورية سنة 1951 بداية مرحلة جديدة من التطور السياسي والاقتصادي. والأهم من ذلك أن الوحدة الوطنية قد ترسخت وتم المحافظة عليها من خلال درجة عالية من الوعي السياسي بالمصير المشترك لدى المواطنين جميعاً. وانطلاقاً من وعي الليبيين بهويتهم كوحدة سياسية مستقلة، فقد توجوا تطورهم السياسي، في منتصف الستينيات، باستبدال نظام الحكم الفيدرالي (الذي كان يشمل الولايات الثلاث السابقة: طرابلس، برقة، فزان) بنظام دولة الوحدة.(14)
أما الثورة الحالية فإنها تتحدث عن نفسها بكل وضوح. لقد شرع الليبيون في البحث من جديد عن الحرية واستعادة الهوية المفقودة والديمقراطية. فعلى الفور، منذ اللحظات الأولى لتفجر ثورة فبراير المجيدة، طغى على الجميع شوق عارم للراية الدستورية، رمز الاستقلال الوطني، فأخذت هذه الراية ترفرف في كل مكان، اعتزازاً، بلا أي شك، بتلك المرحلة التاريخية وبمنجزات الأجيال الماضية. ولا شك أن بروز العلم وانتشاره بشكل عجيب في كل مكان، بأعداد هائلة وبكل الأحجام، يعد مؤشراً لا تخطئه العين لإحساسهم بوحدة ليبيا وهوية سكانها.

خامسا: المكون الحضاري

أن ننظر لتاريخنا كوحدة متكاملة وليس كأجزاء ممزقة هنا وهناك، ولا يمكن إعطاء معنى للتاريخ الليبى الا بهذه الكيفية. فإذا نظرنا إلى التاريخ الليبى بصورة كلية يمكن لنا أن نلاحظ تدفقاً ما لهذا التاريخ الطويل ،الذي كتب وفق ثلاث مدارس أو إتجاهات رئيسية. الإتجاه الأول يقول: ان ليبيا كانت دائماً تعيش على هامش التاريخ وخارج دائرة الحضارة والتمدن ولم يكن لها أى دور حقيقى فى حركة التاريخ العالمى. الإتجاه الثانى: يقول العكس تماماً مؤكدا ان ليبيا كانت دائماً فى صلب الحضارة الإنسانية، وما التراكمات الفينيقية والإغريقية والرومانية والإسلامية إلا تأكيداً لصحة هذا الإتجاه، وقد لعبت المدن الليبية القديمة دوراً أساسياً فى الحركة الفكرية والفلسفية والسياسية العالمية. وأخيراً الإتجاه الثالث والذى قد يكون أقرب إلى الواقع والحقيقة يقول ان التاريخ الليبى هو تاريخ التذبذب بين الاتجاهيين الأول والثانى، بمعنى أنه فى بعض المراحل التاريخية فقد برز دور ليبيا القيادى كما هو الحال عندما حكم الأمازيغى شيشنق مصر، أو الدور الذى لعبه سبتيموس سيفروس فى الحضارة الرومانية، ومدارس الحكمة الشهيرة التى ظهرت فى الأكاديميات الليبية وخاصة فى مدينة قورينا وتأثرت بها المراكز الحضارية فى كل من مصر واثينا وروما،وفي العصر الحديث قادة حركة الاصلاح في العالم الاسلامي بقيادة المصلح الكبير محمد بت علي السنوسي الذي إستوعبت مأساة العالم الإسلامى .(15)
فقد أتى هذا الرجل العظيم فى الوقت المناسب، وكان فعلاً رمزاً للتجديد والأصالة والإصلاح فى عصره فى بيئة متخلفه متنازعه ضاربة فى الفساد، وكان بحثه الصادق عن الحقيقه وترحاله المستمر من أجل العلم والحكمة مصدراً للإلهام والتقدير
ولم يكن السيد محمد بن على السنوسى مقلداً، بل كان ناقداً ومجدداً ومصلحاً ومجتهداً، ونجح نجاحاً باهراً فى تحويل هذه الصحراء الجرداء إلى مركزاً حضارياً إشعاعياً فى قلب الصحراء، وكل ليبى شريف عليه أن يفخر بهذه الحركة الرائدة فى ذلك الوقت. لقد حول السيد محمد بن على السنوسى هذه البيئة القاسية التى اشتهرت بقطاع الطرق والتقاتل الشرس على الآبار والنخيل ومناطق النفوذ إلى بيئة متعاونة تحقق الأخوة الإسلاميه فى أسمى معانيها، فتحولت هذه الصحراء إلى واحات خضراء ومراكز علمية رائدة ومكتبات ثرية، وأصبحت الزوايا السنوسية اشبه بالجامعات والمنارات العلميه، ومراكز للتربيه الأخلاقية والروحيه.  فقد كان لإخلاصه وحكمته وأخلاقياته وزهده قدوة لليبيين وكان مربياً من الطراز الأول، وتربى فى هذه الزوايا أجيال من القادة المخلصين الذين قاوموا بشراسة الغزو الإيطالى القادم من الشمال والغزو الفرنسى القادم من الجنوب، ولولا هذه الأكاديمية السنوسية لما ظهر شخص مثل عمر المختار وغيره من قادة ليبيا الأبطال، الذين قدموا المثال فى التضحيه والفداء من أجل ليبيا.(16)

فقد إكتشف بنباهته وفطنته وذكائه الشديد أن هذه المؤسسات التى كان من المفروض أن تقود العالم الإسلامى قد تخلفت عن القيام بدورها القيادى، وانغلقت إلى حالة من الجمود الفكرى الإنحطاط
الهوامش
(1) سليم الرقعي :  مفهوم الهوية الليبية (من هم الليبيون؟): موقع ليبيا المستقبل
(2) محمد عابد الجابري       الهوية الثقافية... والوطن والأمة والدولة ، موقع مجلة الاتحاد
 (3) عباس ، إحسان : تاريخ ليبيا  منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري ، دار ليبيا ( بنغازي 1967م) وكذلك الشيباني ، عمر محمد التومي : تاريخ الثقافة والتعليم في ليبيا ، مطبوعات جامعة الفاتح (طرابلس ، 2001 )
 (4) (عمر ، أحمد مختار : النشاط الثقافي في ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر التركي ،منشورات الجامعة الليبية (بنغازي ،1971م) 
 ( 5)  القابسي،  نجاح : لمحات حول الحياة الثقافية في طرابلس في العصور الوسط –الاسلامية ، مجلة البحوث التاريخية ،مركز الجهاد الليبي ،  السنة الثانية ، ع الثاني سنة 1980م    ،
 (6) أبو رأس على محمد إبراهيم : لمحات عن الحياة الثقافية في ليبيا خلال ( القرنيين9-10هـ ) أعمال ندوة التواصل الثقافي بين أقطار المغرب العربي تنقلات العلماء والكتب من 20-23سنة 1995م منشورات الدعوة الإسلامية ( طرابلس 1998م )ص 595 . وحول الزاوية انظر الصديق
 (  7) شعيره ، محمد عبد الهادي شعيره : الرباطات الساحلية الليبية الإسلامية ، مؤتمر ليبيا في التاريخ ، منشورات الجامعة الليبية ( بنغازي ، 1968م)
(8) مصطفي أحمد بن حموش  : تحولات البنى الاجتماعية وعلاقتها بالمجال العمراني في مدن الصحراء الجزائرية موقع –انثروبولوجية
      (9)محمد شوقي مكي : علاقة البنى الاجتماعية -بالمجال العمراني -مدن الصحراء   موقع تخطيط العمراني
 (10)نصير عبد الرزاق حسج البصري :  العامل الاجتماعي في تخطيط المدينة
موقع تخطيط العمراني
 (11) البرغوتي : تاريخ ليبيا القديم ، وكذلك ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
 الموقع الجغرافي والأهمية المكانية - حائل طبيعيا وبيئيا

جميع الحقوق محفوظة للهئية العليا لتطويرمنطقة حائل


(12)ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

1.  ^ بنغازي حديقة التفاح - مجلة العربي - تاريخ النشر 1 مايو-2003 - تاريخ الوصول 2 أبريل-2009
وكذلك تاريخ ليبي القديم البرغوثي
(13) أهمية دراسة التاريخ : وليد علي الطنطاوي كلية العلوم الإسلامية – جامعة المدينة العالمية
شاه علم - ماليزيا
 (14) مجيد خدوري : ليبيل الحديثة ترجمة نقولا زيادة (دار الثقافة ، بيروت .1966م)
(15)رمزى الجربى ، ليبيا فى مفترق طرق 2013
(16 ) الجربي : المرجع نفسة











تاريخ علم التشريح عند أطباء العرب المسلمين...د.زكية بالناصر القعود

     يحاول  الباحث هنا أن يهتم بجانب من التراث الطبي الإسلامي وهذا فى الحقيقة يعنى التاريخ له وللمرحلة التى نشأ فيها وإبراز الاكتشافات العلم...