إن جوهر نظرية
الإبصار عند الأطباء المسلمين هو أن الروح النفسائي أو الروح الباصر المتولد في
الدماغ يسري خلال "العصبة المجوفة" سريانا مستمرا، حتى يصل إلي
العينين، وينفذ خلال "الرطوبه الزجاجية" و"الجلدية"
و"البيضة" و"الحدقة"، حتى يصل إلى الهواء
الخارجي، فيقابل النور الخارج، ويرتد لينطبع
في الرطوبة الجليدية، ثم بذلك يتم الإبصار(1).
كانت أول خطوة نحو
معرفة الرؤية بالعين من قبل على ابن عيسي الذي قال: "إن الروح الباصر
يخرج من العين ليقبس المنظورات، ثم يعود إلى العين ويدخلها ليطبع صورها على الدماغ"
(2).
إن دخول صور المرئيات
إلى العين فكرة مبتكرة، لم يعرفها اليونانيون، ولا من عاصر على ابن عيسي من
الأطباء(3). وفي الحقيقة إن الحسن ابن الهيثم قد عارض آراء من سبقه من
الأطباء(4) في الرأي القائل بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم، ثم يرتد إلى
العين، فقد قال: "إن شعاع النور يأتي من الجسم المريء إلى العين، وما تتلقاه
العين هو الذي يجعلها تبصر"(5).
إلا أن تشريح ابن
الهيثم في الحقيقة يمثل أول جهد يحدد بصورة كمية تحدب الوجهين والموقع الأمامي
للعدسة وكذلك المحور البصري، في مصطلحات تشريحية محددة، أي بالإشارة إلى العلاقات
النسبية لتركيب العين(6)، حيث كان أول من أشار إلى أن الإبصار يكون بواسطة الشبكية(7).
وقال: "إن المرئيات تنقل إلى الدماغ بواسطة عصب البصر، وإن وحدة النظر بين
الباصرتين عائد إلى تماثل الصور على الشبكتين(8).
يشكل
"كتاب المناظر" لابن الهيثم الأساس لفهم صحة التشريح
الوصفي والوظيفي للعين، وهو ما يتطرق إليه في الفصلين الخامس والسادس من كتابه
المذكور، حيث وضح هئية البصر ومنافع آلات البصر، وقال في تشريح العين: "ينشأ
في قرني الدماغ عصبتان، ثم تتجه كل واحدة منهما نحو الأخرى، وتلتقيان في وسط مقدم
الدماغ، بعد أن تعودا فتفترقا وتذهب كل عصبة إلى محجر العين الخاص بها. وفي المحجر
ثقب تدخل منه العصبة، ثم تنتشر وتتسع حتى تصبح كالقمع، وتتصل حينئذ بالشحمة
البيضاء(9).
وبحث ابن
الهيثم في كتابه أيضا قوى تكبير العدسات. وقد تكون كتابته هذه هي التي أوحت
باختراع النظارات(10). وكان الرازي أول طبيب لاحظ تجاوب بؤبؤ العين مع
النور ضيقا واتساعا(11).
هذا وقد
مجد مؤرخ طب العيون هيرشيرج ابن الهيثم وأعماله في نظرية الرؤية في
البصريات، واعتبر كتاب "المناظر" أعظم ما حققه العلماء العرب
المسلمون من المنجزات العلمية. وللأسف فإنه لم يعثر على النسخة العربية الأصلية
لهذا الكتاب، وإنما عثر على ترجمته اللاتينية وعلى تعليقات كتبها كمال الدين
الفارسي في مكتبة لندن في أعمال ابن الهيثم العظيمة في البصريات. ثم
أعاد الدكتور عبد الحميد صبرا من جامعة "هارفارد" طبع كتاب
المناظر بالعربية، وطبع في إنجلترا باللغة الإنجليزية(12).
يتضح من هذا المبحث مدي إسهامات الأطباء
المسلمين في مجال طب العيون، والتي سبقوا فيها
الشعوب القديمة. وكان هذا نتيجة تمرسهم في علم التشريح، غير معتمدين على
معلومات السابقين من أطباء اليونان. ولعلنا نستطيع الإشارة إلى بعض هذه الإسهامات
فيما يلي :
1-
وضع العديد من الرسوم
التوضحيه لمعرفة تشريح العين. ومع أن قسما منها مقتبس عن اليونانيين، إلا أن
الأطباء العرب رسموها بشكل واضح، وتعتبر هذه الرسوم أول رسوم معروفة لتشريح العين(13).
2-
عرفوا أسباب الكثير
من أمراض العين وطريقة معالجتها .
3-
سبق أطباء العرب في
الكثير من المسائل التشريحية المتصلة بالعين وبحقيقة الأبصار، قبل علماء القرن
السادس عشر في أوربا، ومنها أنهم توصلوا، قبل فولونيا الإيطالي في سنة
(1523م-1563م) إلى عدم وجود عضلة مسترخية المقلة في عين الإنسان. كما يرجع لهم
الفصل في تطور نظرية البصريات قبل فابرسيوس أب أكوابندنشي، حوالي (1600م) وبوهاس
كيبلر حوالي (1604م)(14).
الهوامش
([1]) العبادي : المصدر السابق، ص98-111 .
(2)
محمد الحاج: الطب عند العرب، ص304.
(3)
تذكرة الكحالين، ورقة 122.
(4)
اليونان أمثال اقليدس وأتباع بطليموس.
(5)
كما قال بهذا الرأى بعض الأطباء المسلمين
أمثال ابن سينا والبيرونى. وهذا راجع إلى دقة التشريح. =انظر الشطشاط : الجراحة
عند العرب، ص404.
(6)
روسل .ج . أ : بحث تشريح العين وتقاليد
جالينوس، من أبحاث المؤتمر الثاني للطب الإسلامي، ص255.
(7) سبقت الإشارة إلى أن ابن رشد أول من أدراك وظيفة
الشبكية بصورة صحيحة، في كتابه الكليات، وأنه أول من شرح شبكية العين. =انظر الصفحات الأولى من هذا المبحث.
(8)
خيرالله: الطب العربي، ص221 . (4) روسل : المصدر السابق، ص 221
(9) فروخ : تاريخ العلوم عند العرب،
ص380–381.
(10)
محمد الحاج قاسم : المصدر السابق، ص53.
(11)
فرات، فائق : طب العيون، مجلة المهن
الطبية، المجلد الثالث، (بيروت، 1070 ) ص65 .
(12) سبع العيش، سرى فايز : قصة اختراع وتطور
العدسات وابن الهيثم رائد علم البصريات، ندوة التراث العلمي العربي للعلوم
الأساسية، المنعقدة بطرابلس خلال الفترة
17-20 ديسمبر 1990. ص574 .
(13)
محمد الحاج : طب العيون عند العرب، ص52.
(14) النجار : تاريخ الطب، ص60.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق