الجمعة، 9 سبتمبر 2016

آلا إنَّ نصر الله قادم *...د.زكية القعود

 واقع الأمة 

 لا يخفى على أحد الواقع المرير الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية ، من حروب شرسة ، وسلب ونهب ،لأعراضها وأرضها وخيراتها ، وما ترتب عليه من فقر ومجاعات وقهر وظلم ، فما أرض من أراضي المسلمين لا تأن من الظلم والقهر والتعذيب سواء بأيدي داخلية أو خارجية غريبة عنها.
فهذا الواقع ما هو في حقيقة الأمر إلا ضربات إلهية ليقاضها من غفلتها وإدراك مأساتها ، ومعرفة قصورها و انحرافها ، لترجع إلى صوابها ، وتأخذ مكانتها بين الأمم  ،وذلك بأخذ أسباب العزة والنصر ،، بعيداً عن ردود الفعل الوقتية التائهة، والهتافات الضعيفة الضائعة، وليصلحوا المسار، ويتجنبوا أسباب الذل والهوان.

         لنلخص واقع الأمة اليوم بما وصفه الحبيب المصطفي صل الله عليه وسلم 
عن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ؟! قال : " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن (1) – ولا غرابة في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتِيَ جوامع الكلم،صلي الله علية وسلم.

على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها وتفريطها لأحكام  الشرعته، وعدم الوقوف عند حدودها، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد ومسيرة التغريب التي نخرت في الأمة وشبابها وفتياتها، حتى صارت تعاني ويلات الانحراف المرّ في صفوف ناشئتها.
 
أسباب ضعفها وهزمتها:
نختزن هذه الأسباب فيما أشار إليه الله تعالى في كتابه الحكيم ، وما أورده رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
 
1-الذنوب والسيئات

قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوعن كثير)(2) وقال تعالى : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم )(3).
وقال تعالي (ولو يؤاخذ اللهُ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) (4).
 عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا ، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ].(5)  " إذا تبايعتم بالعينة " العينة نوع من أنواع الربا ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله )(6)

2 - نقض عهد الله ورسوله

ومن نقض عهد الله وعهد رسوله سلط الله عليه عدوه فأذلّه وأخذ بعض ما في يده، يقول رسول الهدى  : (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إن ابتلِيتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم) (7)

3- الكفران بالنعمة
 
 أمر عظيم عند الله عز وجل ، قال تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكرت بأنعم الله ، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )(8)

4- ما قدروا الله حق قدره

  قول تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (9) ذكر بعض أهل العلم عن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها بكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أباالدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله، إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. فبكاء أبي الدرداء (10)– رضي الله عنه – ليس حزناً عليهم ولا أسفاً، ولكنه من قوة إيمانه وتدبره وتعظيمه لله _سبحانه_ وخوفه من عقابه؛ لأن كثيراً من الناس ينطبق عليهم قوله _تعالى_: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

5- ضياع الامانة 

 امانة مسؤولية أمام الله عز وجل، يوم يسأل كل عبد عما استرعاه مولاه: أدَّى أم تعدّى؟ يقول رسول الله  : (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) (11). وقد قال رسول الهدى : (إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) (12) .

6-الرجل التافه يتكلم في أمر العامة  

ينطق الرويبضة أو الفويسقة من الناس في أمورها العامة, وأحداثها الهامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  : (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) (13).

7- حب الدنيا  

 قول جل في علاه: (قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ)(14) ، وقوله صل الله عليه وسلم : (من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له) (15)
عن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ؟! قال : " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال :" حب الدنيا وكراهية الموت ") (16).
        برغم هذه الأوضاع المتردية التي تأن منها الأمة ، إلا إن النصر قادم ،إلا هذا النصر لا يأتي فجأة أو معجزة ولكن وفق السنن الإلهية في خلقه ، والأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى فهم واسع للسنن الإلهية ·فمن ثمرات هذا الفهم ،  كشف وفهم وإدراك ا لعلاقة بين السنن بحياتنا ، ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هذا الوجود خاضع لسنة سوف يعيننا ـ بإذن الله ـ على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والتشتت، لأن كشف السنة التي تحكم أمرا من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة، واقعية،وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف، إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف.
   
تعريف السنة

وقد ذكرت كلمة (سنة الله) وأنها لا تتبدل ، في القرآن الكريم في مواضع كثيرة حتى يرسخ مفهومها في النفوس وتنحسر الأوهام عن العقول. (وسنة الله) أو هذا القانون الإلهي العام يقوم على الأسباب والمسببات وربط النتائج بالمقدمات على نحو هو في غاية الدقة والصرامة
والاطراد.. والإنسان – وهو جزء من هذا الكون ، ولكنه جزء متميز – يخضع لهذا القانون الأفراد والأمم في جميع أحوالهم ، فكما أن سقوط تفاحة من شجرة هو نتيجة حتمية لأسباب معينة أدت إلى هذا السقوط ، فكذلك يعتبر سقوط دولة أو هلاك أمة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدت إلى هذا السقوط (17).وهذا ما تقضي به سنة الله العامة التي لا تقبل التخلف ولا التبديل : ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) (18)
نجد  في كتابنا العزيز الكثير من الآيات التي تشير إلى سسنن الله ، ونعتقد أن هذه الكثرة من آيات التي جاء فيها ذكر ( سنة الله) ومعناها وتطبيقاتها ، تدل دلالة قاطعة عن أهمية المعرفة بسنة الله في الكون ووجوب فهمها من قبل المسلمين ، كما يجب عليهم فهم أمور العبادات التي تخصهم ، لأن الله عز وجل لا يخص بالذكر في القرآن الكريم إلا ما يلزم ذكره ويحتاج الناس إلى معرفته ، فإذا تكرر ذكر شيء دل ذلك على أهميته ، ولهذا جاء في هذه الآيات التي أشرنا إليها ما يدعو إلى التأمل والاتعاظ والافتكار في سنن الله ، كما جاء فيها دعوة صريحة إلى وجوب فهم سنن الله في الاجتماع البشري.ومن لا يعتبر بالأسباب يكون بعقله نقص ، وقد أشار  ابن تيمية الى ذلك في قوله : ( ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل وهو طعن في الشرع أيضاً ، فالله تعالى يقول : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقال تعالى : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام  ، وأمثال ذلك ، فمن قال يفعل الله تعالى عندها ، أي عند هذه الأسباب ، لا بها ، فقد خالف لفظ القرآن ، مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب )(19).

و من السنن الإلهية:

1-سنة التدرج  :

قد وجه الله تعالى انظارنا ألى هذه السنة في كثير من موقع ، فالله تعالى خلق السموات والارض في ستة أيام يعلمها سبحانة ويعلم مقدارها- وكان جل شانة قادرا على خلقها في أقل منلمح البصر ، وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان والحيوان والنبات كلها تتدرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها.سنة التدرج مقررة في التشريع الاسلامي بصورة واضحة ملموسة وهذا من تسير الاسلام على البشر ، أنه راعي معهم سنة التدرج فيما شرعه لهم من فرائض.وهذه السنة الربانية –التدرج- ينبغي أن تتبع في تمكين المسلمين في الارض ، فلا يمكن  أن يتحقيق النصر إلا بسنة التدرج .(20)

2-سنة التغير:  

 فهذه السنة الربانية ،من السنن الهامة على طريق النهوض ، فهي مرتبطة بالتغير حال الامة،والتغير المطلوب هو التغير الداخلي تغير الانفس بمحاسبة النفس والرجوع بها الى شرع الله واحكامه ، وذلك بتصحيح و تبثث العقيدة في نفس كل مسلم ، فهذا من اهم عوامل النصر والعزة للامة الاسلامية .وهذا ما أكده   الله تعالي في قوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 
 (21) ، وقال تعالى :( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (22) .
 
3-سنة التدافع

ومن سنته تبارك وتعالى أنْ قدَّر التدافع بين الإيمان والكفر ، وبين العدل والظلم ، وبين الحق والباطل: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)( 23). (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً)(24) ومن سنته سبحانه أن شرع للمؤمنين مدافعة الكفر وأهله، ومقارعتهم بالحجة 
والبرهان، ومقاتلتهم باليد والسلاح .

وعن عياض بن حمار المُجاشِعي؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدَعوه خبزةً؛ قال: استخرجْهم كما استخرجوك، واغزُهم نغرك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك) (25) .)

ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على أنه منذ أن اجتالت الشياطين بني آدم عن دينهم، وظهر الشرك والكفر، وظهر تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ منذ ذلك والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى؛ هذه سُنَّة إلهية لا تتخلف؛ ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك، وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى رحمة الله وفضله، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين؛ ولذلك ختم الله ـ عز وجل ـ آية المدافعة في سورة البقرة بقوله ـ سبحانه ـ: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (26) حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس، بل قيَّض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق؛ فالله ـ تعالى ـ يقول: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(27).

وكان من سنة الله تعالى لما شرع الجهاد ، وكلف العباد به: أنْ جعل الأيام دولا بين الحق والباطل ، فتكون الغلبة لأهل الحق تارة ، وتارة أخرى تكون لأهل الباطل ؛ وذلك ابتلاء وامتحانا للعباد ، وتمحيصا للقلوب ، وتمييزا للثابت على الحق من الناكص على عقبيه ، المبدل لدين الله تعالى ، والحكمة من هذه السنة الثابتة منصوص عليها في القرآن أيضا: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(28)  .وفي الآية الأخرى (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )(29).

ومن سنة الله تعالى أن كتب الغلبة لأهل الحق والإيمان والعدل على أهل الباطل والكفر والظلم ، ولكن بشرط أن يكونوا قائمين بأمر الله تعالى ، ناصرين لدينه ، مستمسكين بشريعته ، فإن غلبهم أعداؤهم فبسبب تقصيرهم في دينهم ، ومعصيتهم لربهم  وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى ، بل أقسم عليها الرب جل جلاله في قوله سبحانه (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(30) وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)(31) .
ولكن إن أخلَّ أهل الحق بهذا الشرط المتمثل في نصر الله تعالى بالاستمساك بدينه ، وتعظيم شريعته، والعمل بها ، فقدوا سبب النصر ، وعوقبوا بالذل والهوان ، وتسلط الأعداء؛ تذكيرا لهم وتأديبا ، لعلهم إلى ربهم يرجعون ، وبدينهم يستمسكون ، وعن المعاصي ينتهون ، وهذا التأديب والتذكير ذاق شدته ومرارته أفاضل هذه الأمة حين عصى الرماة في أحد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فانقلب ميزان المعركة لصالح المشركين

إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السُّنَّة ـ أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتعبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ الذي ارتضاه واختاره لهم، وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل، وإيثار الحياة الدنيا. 

والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله ـ عز وجل ـ على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه(32).

4- سُنة الابتلاء والتمحيص:

 قال الله ـ عز وجل ـ : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (33) وقال ـ تعالى ـ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (34) وقال ـ سبحانه وتعالى ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (35).
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عن الآية الأخيرة: «أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر»(36).

ويقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: «ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله ـ سبحانه ـ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دَخَل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة. (37) . وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله ـ سبحانه ـ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجعة العظيمة.

وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم
في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنَّة الربانية الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها ـ سبحانه وتعالى ـ لتؤتي أكلها الذي أراده الله ـ عز وجل ـ منها؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وقبل هذا التمحيص والتمييز؛ فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله ـ عز وجل ـ عباده المؤمنين وفي قال ـ تعالى ـ: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (38) .

فذكر الله ـ سبحانه ـ التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟ إن الله ـ عز وجل ـ حكيم عليم وما كان ـ سبحانه ـ ليحابي أحداً في سننه ولله ـ عز وجل ـ الحكمة في وضع السُّنَّتين: سنة الابتلاءو التمحيص، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (39).
 
        وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتُعرف لولا سُنَّة الابتلاء والتمحيص؛ وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف، وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلَّهم أن يراجعوا أنفسهم ويُقلِعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السُّنَّة، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها. قال الله ـ تعالى ـ في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(40)

وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ ) (41). وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم - لما تحزبت عليهم الأحزاب(42): (وَلَـمَّا رَأَى الْـمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (43).

سنة الاستبدال : -5 

قال تعالي: ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم  ) (44) فإن الله تعالى خلق الخلق لحكمة بالغة وهي تحقيق العبودية؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون)(45)، وتتجلى هذه العبودية في الخضوع الشامل لإرادته والطاعة التامة لأوامره ونواهيه، ولأجل هذه الغاية العظمى؛ بعث الله الرسل واستخلف أمماً وسخَّر لها ما في السماوات وما في الأرض، وهو دليل على أن لا شيء أعظم قيمة عند الله من هذه الغاية، فحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فهو لا يرضى لعباده الكفر، وهو أغنى الشركاء عن الشرك، ومن هنا تأتي عملية الاستبدال - التي تعني في الصميم - غضب الله وانتقامه من الفرد أو الجماعة أو الأمة التي أشركت مع الله، ليحل محلهم فرد أو جماعة أو أمة أخرى لتحقيق حق الله عليهم.

فسنة الله لا تحابي أحداً في هذا المجال؛ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (46)، فالكثير من الأفراد والأقوام والأمم استبدلها الله تعالى حينما حادت عن نهجه وكذبت رسله، بالرغم من قرابتها من هؤلاء الأنبياء والرسل.

هناك مراحل أو محطات عديدة يمر بها الفرد أو الجماعة قبل الوصول إلى المحطة النهائية وهي عملية الاستبدال، أهمها...التيه ومن أهم المحطات التي تمر بها الأمم قبل عملية الاستبدال، هي محطة التيه، وهي من أخطر المراحل وأقساها على النفوس، ومن أهم المراحل وأنفعها للدعوة ولأصحاب الحق. ذلك أنها تعتبر مرحلة تصفية للصفوف وتمحيص للنفوس، وفي هذا منافع عديدة ونفيسة للتجمعات الإيمانية.(47)

ولا يمكن أن ننسى في هذا المقام نموذج بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، حينما أمرهم الله تعالى بدخول الأرض المقدسة فرفضوا فحكم عليهم بالتيه في صحراء سيناء لمدة أربعين سنة؛ (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (48)، فكانت هذه الفترة فرصة لذهاب تلك الفئة المتقاعسة الملتوية ليحل محلها جيل قوي خشن، متمرن على القتال ومتعود على شظف العيش، فتح الله على أيديهم بيت المقدس بعد أربعين سنة.
لقد شاء الله عز وجل لهذه الأمة أن تكون خاتمة الأمم وشاهدة عليها(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (49)، فعملية استبدالها غير واردة البتة، بخلاف عملية التيه.

فبعد أن امتنعت نسبة كبيرة من الأمة عن أداء واجباتها، وتركت الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليها ذلاً لا يمكن أن يُرفع عنها إلا بامتلاك أسباب القوة والمنعة وخوض غمار الجهاد مع الأعداء، فبالإضافة إلى هذا، أصبحت هذه الفئات تائهة في هذه الحياة، لا تجد فرجاً ولا مخرجاً.

سنة هلاك المفسدين :-بعد ذلك يذكرنا الرب بأحد سننه و تقاديره في الحياة و التي قد لا يراها البعض ، و هي : إن عاقبة الذين اساؤا ستكون السوأى ، بان يكذبوا بآيات الله ، و من ثم الاستهزاء بهـــا ، و هذه الآية - في الواقع - تهز الإنسان من الأعماق ، ذلك أن الشيطان حين يخدع البشر يهون عليه السيئات الى ان يستدرجه من الذنب الصغير إلى اكبر منه ، حتى تغطي الذنوب كل أعماله ، و من ثم يأتي الى عقيدته و يسلبها منه ، و يتركه في جهنم ، و إن السيئات تشبه منحدرا ، كلما هوى أكثر كلما ازدادت جاذبية الأرض و ضعفت مقاومته .

و هكذا كان نمرود و فرعون و سائر المستكبرين ، فهم لم يدعو الألوهية من أول يوم ، بل استدرجهم الشيطان حتى أنساهم ذكر الله ، و أصبحوا كذلك يكذبون بآياته ، و يستهزؤون بها .. من هنا يجب على الإنسان ان يحسب حساب الخطوة الأخيرة حينما يقرر إتباع الشيطان في لخطوة الأولى ، يقول الله تعالى ( ثــم كان عاقبــة الذين اساؤوا السوأى أن كذبوا بايات الله و كانوا بها يستهــزؤون )(50) ، أي كانت عاقبتهم أسوء عاقبة.

و نعوذ بالله فهذا البشر الضعيف الحقير المستكين المحتاج ليس فقط يكذب بآيات الله ، بل و يستهزأ بها .وهذا يؤكد لنا أن هذه القوة المتغطرسة المتكبرة الكفار التى تهيمن على العالم مصيرها الهلاك كما هلكت الفرس والروم وقبلهم فرعون وثمود (51).

سنة الله نصر المؤمنين و اختيار الشهداء:

من سنة الله تعالى أن كتب الغلبة لأهل الحق والإيمان والعدل على أهل الباطل والكفر والظلم، ولكن بشرط أن يكونوا قائمين بأمر الله تعالى، ناصرين لدينه، مستمسكين بشريعته، فإن غلبهم أعداؤهم فبسبب تقصيرهم في دينهم، ومعصيتهم لربهم.

وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، بل أقسم عليها الرب جل جلاله في قوله سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(52).وفي آيات أخرى كثيرة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)(53). (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(54).

ولكن إن أخلَّ أهل الحق بهذا الشرط المتمثل في نصر الله تعالى بالاستمساك بدينه، وتعظيم شريعته، والعمل بها، فقدوا سبب النصر، وعوقبوا بالذل والهوان، وتسلط الأعداء؛ تذكيراً لهم وتأديباً، لعلهم إلى ربهم يرجعون، وبدينهم يستمسكون، وعن المعاصي ينتهون.

وهذا التأديب والتذكير ذاق شدته ومرارته أفاضل هذه الأمة، فحين عصى الرماة في ( أحد) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، انقلب ميزان المعركة لصالح المشركين ، وأنزل الله تعالى آيات كريمات تبين أن معصيتهم هي سبب مصابهم (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(55). إلى أن قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(56).و قال سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (57) .و قال و هو أصدق القائلين : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )(58)

و ليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، و لكنها سنّة مضت و تمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، و لا يعدُ الابتلاء أن يكون (  سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً )(59)
فلابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة ولتزيد طاعة لله وتوكلا عليه والتصاقا بركنه ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين(60) ، ( وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ) (61) .

 والمتأمل واقع الأمة المرير اليوم نجدها برجع إلى الأسباب التي اشرنا إليها والتي ذكرها الله العزيز الحكيم وما ذكره رسولنا الكريم ما بين حب الدنيا وغش وربا وضياع الأمانة وتولية الأمور لغير أهلها وترك للجهاد وغيرها من الأسباب التي جعلت االله العلى العظيم وفق سنن الله في حلقة أن تدور الدائرة على الأمة الإسلامية وتصبح كما قال عنها رسولنا الكريم  تداعى عليها الأمم وتعاني الويلات وذلك نتيجة ما صنعت بنفسها بتركها حكم الله وشرعه فهي وفق سنن الله في خلقه ، في ابتلاء وتحميص وتدافع بين الحق الباطل لتميز الخبيث من الطيب ليظهر جيل جديد ناصرا لحق قويا على الباطل غير متخاذلين رافع راية الجهاد . لنصر هذه الأمة  ويهلك المفسدين تُمكن امة الإسلام في الأرض وتحقق العدل في أصقاع العالم.
ـــــــــــــــــ
الهوامش
(1)     أخرجه أبو داود 3567
(2)     سورة الشورى ، الاية 30
(3)     سورة آل عمران ، الاية 65
(4)     سورة النحل ، الاية 61
(5)     أخرجه أبو داود 3462
(6)     سورة البقرة ، الاية 179
(7)     أخرجة ابن ماجة وصححة الالباني في الصحيحة 1/ 167
(8)     سورة النحل ، الاية 122
(9)     سورة الانفال ، الاية 191
(10) أبى النعيم ، الحلية
(11) أخرجة البخاري
(12) أخرجة البخاري باب العلم
(13) أخرجة ابن ماجة 4042
(14) سورة التوبة ، الاية 24
(15) الترمذي وأحمد 5/ 1183
(16) أخرجة أبو داود 3567
(17) سعاد رحائم : السنن الالهية بين فقة الوحي وفقة الواقع،مجلة الوعي الاسلامي
(18) سورة الاحزاب ، الاية 62
(19)   عبد الكريم زيدان : السنن الالهية في الامم والجماعات والافراد في الشريعة الاسلامية، ص21-
(20)   الصلابي: السيرة النبوية 1/141
(21) سورة الرعد ، الاية 212
(22) سورة البقرة ، الاية 212
(23) سورة البقرة ، الاية 251
(24) سورة الحج ، الاية 40
(25)  عبد العزيز بن ناصر الجليل : الاحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية.موقع الوعي الاسلامي
(26) سورة البقرة ، الاية 251
(27) سورة الانبياء ، الاية18
(28) سورة آل عمران ، الاية 140
(29) سورة ، الاية 179.
(30) سورة الحج  ، الاية 40
(31) . سورة النور  ، الاية 55
(32) عبد العزيز بن ناصر الجليل : الاحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية
(33) سورة العنكبوت ، الايات 1-3
(34) سورة آل عمران  ، الاية 154
(35) سورة آل عمران  ، الاية 179
(36) عبد العزيز : المرجع السابق
(37) سيد قطب : الظلال نقلا عن عبد العزيز المرجع السابق
(38) سورة آل عمران  ، الاية 141
(39) سورة أل عمران ،الآية 179
(40) سورة آل عمران ، الاية 139.
(41) سورة آل عمران ، الاية 146-147
(42) سيد قطب سنة الابتلاء والتحميص ، موقع مكتبة طريق القرآن ،ص6
(43) سورة الاحزاب ، الاية 22
(44) سورة محمد ، الاية 38
(45) سورة الذاريات ، الاية 56
(46) سورة النساء ، الآية 123
(47) سعد العاملي : مقالة في موقع الاسلام
(48) سورة المائدة  ، الآية 26
(49) سورة الحج ، الآية  78
(50) سورة الروم ، الآية 10
(51) بشير بن فهد البشير : أسباب النصر والهزيمة في التريخ الاسلامي ، موقع ليبيا الحرة ، ص7
(52) سورة الحج  الآية 40
(53) سورة النور ، الآية 55
(54) سورة الصافات ، الآيات 171-173
(55) سورة ال عمران الآية 52
(56) سورة ال عمران ،الآية 165
(57) سورة التوبة ، الآية 16
(58) سورة البقرة ،الآية 214
(59) سورة الاحزاب ، الآية 62
(60) سيد قطب : سنة الابتلاء والتمحيص
سورة ال عمران ، الآية 140 (61)

سبق النشر بموقع جيل الليبى عام 2007




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تاريخ علم التشريح عند أطباء العرب المسلمين...د.زكية بالناصر القعود

     يحاول  الباحث هنا أن يهتم بجانب من التراث الطبي الإسلامي وهذا فى الحقيقة يعنى التاريخ له وللمرحلة التى نشأ فيها وإبراز الاكتشافات العلم...